سلام الله عليكم
تأليف القرآن
تأليف القرآن في شكله الحاضر، في نظم آياته وترتيب سوره، وكذلك في تشكيله وتنقيطه وتفصيله إلى أجزاء ومقاطع، لم يكن وليد عامل واحد، ولم يكتمل في فترة الوحي الأُولى. فقد مرّت عليه أدوار وأطوار، ابتدأت بالعهد الرسالي، وانتهت بدور توحيد المصاحف على عهد عثمان، ثم إلى عهد الخليل ابن أحمد النحويّ الذي أكمل تشكيله بالوضع الموجود.
وهو بحث أشبه بمعالجة قضيّة تأريخية مذيّلة، عن أحوال وأوضاع مرت على هذا الكتاب السماوي الخالد. غير أن مهمتنا الآن هي العناية بدراسة القرآن من زاوية جمعه وتأليفه مصحفًا بين دفّتين، والبحث عن الفترة التي حصل فيها هذا الجمع والتأليف، وعن العوامل التي لعبت هذا الدور الخطير. ومن ثم سنفصل الكلام عن القرآن في عهده الأوّل الذي لم يتجاوز نصف قرن، ثم نوجز الكلام في أحوال مرتّ عليه في أدوار متأخّرة. والبحث الحاضر يكتمل في ثلاث مراحل أساسّية:
أولاً: نظم كلمات القرآن بصورة جمل وتراكيب كلاميـّة ضمن الآيات.
ثانيًا: تأليف الآيات ضمن السور القصيرة أم طويلة.
ثالثًا: ترتيب السور بين دفـّتين على صورة مصحف كامل.
ومجمل القول في ذلك: أنّ نظم الكلمات والجمل والتعابير، كلّها كانت بفعله تعالى، لم يحدث فيها أيّ تغيير أو تبديل، لا بزيادة ولا بنقص ولا بتغيير موضعيّ أصلاً.. ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ...﴾(1).
وكذا ترتيب الآيات ضمن السور، واكتمالها على أعداد متفاوتة من الآيات شيء حصل على عهده (صلى الله عليه وآله) وبأمره الخّاص ليس لرأي سواه مدخل فيه ولم تمسـّه يد سوء أبدًا..﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ..﴾(2).
نعم بقي ترتيب السور أمرًا مؤجلا إلى ما بعد وفاته (صلى الله عليه وآله) حيث انقطاع الوحي وعدم ترقّّب نزول سورة أُخرى أو آيات.. وإليك التفصيل:
نظم الكلمات
لاشك أنّ العامل في نظم كلمات القرآن وصياغتها جملا وتراكيب كلاميّة بديعة، هو الوحي السماوي المعجز، لم يتدخل فيه أي يد بشريّة إطلاقًا. كما ولم يحدث في هذا النظم الكلمي أي تغيير أو تحريف عبر العصور: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ إذ في ذلك يتجسّد سر ذلك الإعجاز الخالد، الذي لا يزال يتحدى به القرآن الكريم. ولمزيد التوضيح نعرض ما يلي:
أولاً: إسناد الكلام إلى متكلّم خاصّ يستدعي أن يكون هو العامل في تنظيم كلماته وتنسيق أسلوبه التعبيري الخاصّ. أمّا إذا كان هو منتقيا كلمات مفردة وجاء آخر فنظّمها في أسلوب كلاميّ خاصّ، فإنّ هذا الكلام ينسب إلى الثاني لا الأوّل. وهكذا القرآن المجيد هو كلام الله العزيز الحميد، فلا بدّ أن يكون الوحي هو العامل الوحيد في تنظيم كلماته جملاً وتراكيب كلامية بديعة، أمّا نفس الكلمات من غير اعتبار التركيب والتأليف فكان العرب يتداولونها ليل نهار، إنّما الإعجاز في نظمها جاء من قبل وحي السماء.
ثانيًا: كان القسط الأوفر من إعجاز القرآن كامنًا وراء هذا النظم البديع وفي أُسلوبه هذا التعبيري الرائع، من تناسب نغمي مُرنّ، وتناسق شعريّ عجيب، وقد تحدّى القرآن فصحاء العرب وأرباب البيان- بصورة عامّة- لو يأتون بمثل هذا القرآن، ولا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا(3) فلو جوّزنا -محالا- إمكان تدخّل يد بشريّة في نظم القرآن، كان بمعنى إبطال ذاك التحدّي الصارخ. ومن ثم كان ما ينسب إلى ابن مسعود: جواز تبديل العهن بالصوف في الآية الكريمة(4) أو قراءة أبي بكر: ﴿وجاءت سكرة الحق بالموت﴾(5) مكذوبًا أو هو اعتبار شخصيّ لا يتّسم بالقرآنية في شيء.
ثالثًا: اتفاق كلمة الأمّة في جميع أدوار التاريخ على أنّ النظم الموجود والأُسلوب القائم في جمل وتراكيب الآيات الكريمة هو من صنع الوحي السماوي لا غيره. الأمر الذي التزم به جميع الطوائف الإسلامية، على مختلف نزعاتهم وآرائهم في سائر المواضيع. ومن ثم لم يتردّد أحد من علماء الأدب والبيان في آية قرآنيّة جاءت مخالفة لقواعد رسموها، في أخذ الآية حجّة قاطعة على تلك القاعدة وتأويلها إلى ما يلتئم وتركيب الآية. وذلك علمًا منهم بأن النظم الموجود في الآية وحي لا يتسرّب إليه خطأ البتة، وإنّما الخطأ في فهمهم هم وفيما استنبطوه من قواعد مرسومة.
مثال ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ﴾(6) فزعموا أنّ الحال لا تتقدّم على صاحبها المجرور بحرف، والآية جاءت مخالفة لهذه القاعدة. ومن ثم وقع بينهم جدال عريض ودار بينهم كلام في صحّة تلك القاعدة وسقمها(7) ولجأ ابن مالك أخيرا إلى نبذ القاعدة بحجة أنّها مخالفة للآية، قال:
وسبق حال ما بحرف جر قد أبوا ولا أمتعه فقد ورد
المصدر:
كتاب التمهيد في علوم القرآن، سماحة الشيخ محمد هادي معرفة